أجمل قصائد الشعر العربي الحديث ليست من الأمور التي يمكن حصرها أو تعدادها بسهولة، ويرجع ذلك إلى الكثير من العوامل على رأسها أن تلك القصائد كانت المحرك الرئيسي لمجريات الأحداث خلال هذا العصر.
لذا سنقدم لكم عبر أجمل قصائد الشعر العربي الحديث، لكي يتثنى لجميع القراء ومحبي الشعر الاطلاع على الدرر اللامعة من الأعمال الشعرية التي قدمت في هذا العصر.
أجمل قصائد الشعر العربي الحديث
إن محاولة ذكر أجمل قصائد الشعر العربي الحديث مهما استماتت وتعمقت فهي سطحية وقليلة، وهذا يرجع إلى براعة شعراء هذا العصر وكثرة ما قدموه من القصائد الشعرية الجميلة التي لا تزال حية في وجدان العرب حتى الآن، وهي تقدر بمئات الآلاف أو ربما ملايين القصائد، ومن بحر القصائد الشعرية ننتقي بضع قصائد من أجمل قصائد الشعر العربي الحديث وهي كالآتي:
1ـ قصيدة صخرة الملتقى للشاعر إبراهيم ناجي
يمكننا القول على يقين بأن قصيدة صخرة الملتقى واحدة من أجمل قصائد الشعر العربي الحديث وأشهرها أيضًا، ويكمن جمالها في وقوف الشاعر على الأطلال التي جمعت بينه وبين حبيبته في الماضي مخاطبًا إياها قائلًا:
سألتكِ يا صخرةَ الملتقى متى يجمع الدهرُ ما فرَّقا!
فيا صخرةً جمعت مهجتين أفاءا إلى حسنها المنتقى!
إذا الدهر لجَّ بأقداره أجدَّا على ظهرها الموثقا
قرأنا عليكِ كتاب الحياةِ وفضَّ الهوى سرها المغلقا
نرى الشمس ذائبة في العباب وننتظر البدر في المرتقى
إذا نشر الغربُ أثوابَه وأطلق في النفس ما أطلقا
نقول هل الشمس قد خضبته وخلَّت به دمها المهرقا؟
أم الغرب كالقلب دامي الجراح له طلبة عز أن تلحقا
فيا صورة في نواحي السحاب رأينا بها همَّنا المغرِقا
لنا الله من صورَةٍ في الضمير يراها الفتي كلما أطرقا!
يرى صورة الجُرح طيَّ الفؤاد مازال ملتهبًا محرقا
ويأبى الوفاء عليه اندمالا ويأبى التذكر أن يشفقا
ويا صخرة العهد أبت أليكِ وقد مُزِّق الشَّمل ما مزقا
أريك مشيبَ الفؤادِ الشهيــدِ والشيبُ ما كلَّل المفرِقا
شكا أسره في حبال الهوى وود على الله أن يُعتقا
فلما قضى الحظ فك الأسيـ ـر حنَّ إلى أسره مطلقا“
شرح قصيدة صخرة الملتقى لإبراهيم ناجي
إن تحليل قصيدة صخرة الملتقى كواحدة من أجمل قصائد الشعر العربي الحديث يبدأ من وقوف الشاعر على شاطي البحر مخاطبًا إحدى صخوره، وهو يسألها متى سوف يجمع الزمان شتات ما فرقه ويدلي الشار بشكواه وآهاته لصخرة الأطلال، متوجعًا متشوقًا إلى اللحظات التي جمعته بحبيبته الحسناء ذات يوم.
يتابع الشاعر شكواه قائلًا بأن الزمان إذا ما صارت أقداره إلى الأمام ثارت على المحبين وفرقت بينهم ومزقت شملهم، فلقد قرأ عليهم كتاب الحياة وقدرها وفتش سرها الخفي المؤلم لكي نقف من بعيد نرى الشمس وكأنها تذوب بين الغيوم حتى تغيب، ونبقى لكي ننتظر البدر يطلع مكانها في الليل لينير ما أعتمته ولكن البدر لا يأتي إلا مرة واحدة.
يصف الشاعر قصة حبه الحزينة بأنها صورة ترسمها السحب ويراها هو كلما تأمل في السماء كالفتى الصغير يراقب سير السحب وحركتها، ثم يطلب من الله أن يعينه على تحمل تلك الذكرى المؤلمة التي تطارده كلما أطرق يفكر في أي شيء آخر، فإن الله يرى صورة هذا الجرح البالغ العميق الذي يعانقه القلب في ثناياه وحناياه ويلهبه من الألم وكأنه يحترق.
يختتم الشاعر قصيدته بحديثه مباشرة إلى صخرة الملتقى قائلًا بأنه عاد إليها مرةً أخرى وحيدًا بعد أن تمزق شمله مع محبوبته، لكي يريها الشيب الذي انتشر في حنايا قلبه بالرغم من أنه لم يدرك سن الشيب بعد ولم يظهر له شعرًا أبيض في رأسه، ويقول لها بأنه يشكو إليها من أسره في حزنه بعد زوال قصة حبه ويتمنى أن يعتقه الله ويحرره من ذلك الأسر، ولكنه يعلم إن الله إذا فك عنه ذلك الأسر زاد شوقته لحبه العاثر، وتمنى أن يعود لذلك الأسر مرة أخرى بالرغم من الحرية.
2ـ قصيدة بلغوها للشاعر بشارة الخوري
كانت ولا تزال وستبقى قصيدة الشاعر بشارة الخوري “بلغوها” من أجمل قصائد الشعر العربي الحديث قاطبةً، فلقد أفاض بشارة الخوري في كتابة هذه القصيدة إلى حدود أخرى تتجاوز حدود الزمان والمكان، ولقد كان بشارة الخوري أو الأخطل الصغير رجل سياسة ومناضل وطني وأول رئيس لبناني لجمهورية لبنان، ولكن هذا لم ينكر عليه أنه فنان مبدع وحساس من الطراز الرفيع.
إن أبرز الأدلة على أن قصيدة بلغوها واحدة من أجمل قصائد الشعر العربي الحديث بالفعل، هو أن الكثير من مطربي العصر الذهبي للفن الغنائي في القرن الماضي كانوا يتصارعون من أجل الحصول عليها لغنائها، ولكنها في النهاية كانت من نصيب الراحل فريد الأطرش الذي غناها ببراعة ولحنها بموسيقى خالدة، ويقول الشاعر في رائعته بلغوها:
“بَلّغُوهَا إذا أتَيْتُمْ حِمَاهَا
أنَّني مُتُّ فِي الغَرَامِ فِداهَا
وَاذْكُرُونِي لهَا بِكُلّ جَمِيلٍ
فَعَسَاهَا تَبْكِي عَليَّ عَسَاهَا
وَاصْحَبُوها لِتُرْبَتي فَعِظامي
تَشْتَهي أنْ تَدُوسَهَا قَدَمَاهَا
لَمْ يَشُقْني يَوْمُ القِيامَةِ لَوْلا
أمَلي أنّني هُنَاكَ أرَاهَا
وَلَوَ انَّ النَّعِيمَ كانَ جَزَائي
فِي جِهادي وَالنّارَ كانَتْ جَزَاها
لأتَيْتُ الإلَهَ زَحْفاً وعَفّرْتُ
جَبينيَ كَيْ أسْتَمِيلَ الإلَهَا
وَمَلأتُ السَّمَاء شَكْوَى غَرَامي
فَشَغَلْتُ الأبْرَارَ عَنْ تَقْوَاهَا
وَمَشَى الحُبُّ في المَلائِكِ حَتّى
خَافَ جِبْرِيلُ مِنْهُمُ عُقْبَاهَا
قُلْتُ يا رَبّ أيُّ ذَنْبٍ جَنَتْهُ
أيُّ ذَنْبٍ لَقَدْ ظَلَمْتَ صِبَاهَا
أنتَ ذَوّبْتَ في مَحاجِرِها السّحْرَ
وَرَصّعْتَ بِاللآلىء فَاهَا
أنْتَ عَسّلْتَ ثَغْرَها فقُلوبُ النَّاس
نَحْلٌ أكْمَامُهَا شَفَتَاهَا
أنتَ مِنْ لَحْظِهَا شَهَرْتَ حُساماً
فَبَرَاءٌ مِنَ الدّمَاء يَدَاهَا
رَحمةً رَبّ لَستُ أسألُ عَدْلاً
رَبّ خُذْني إنْ أخطأتْ بِخُطَاهَا
دَعْ سُلَيْمَى تكونُ حَيثُ تَرَانِي
أوْ فَدَعْنِي أكُونُ حَيثُ أرَاهَا“
شرح قصيدة بلغوها لبشارة الخوري
في إطار عرض أجمل قصائد الشعر العربي الحديث، نوضح لكم شرح قصيدة بلغوها، حيث يطلب الشاعر في مطلع قصيدته من الناس عندما يذهبوا إلى مكان حبيبته أن يخبروها بأنه مات شهيدًا في هواها، وأوصاهم بأن يذكروه عندها بكل ما هو جميل لربما تبكي عليه شوقًا وحزنًا وأن يصطحبوها إلى حيث يرقد، فهو يتمنى أن تطأ قدماها فوق جسده البالي تحت الثرى، ويتابع قوله بأنه لا يخاف من يوم القيام لأنه ينتظره على أمل أن يلقاها فيه.
ثم يتابع قوله بأن لو كان مصيرها هو النار ومصيره هو الجنة لتقرب إلى الله وتضرع إليه وتوسل لكي يبدل دارهما فيدخل هو النار مكانها ولتنعم هي بالجنة مكانه، ثم ليثور بشكواه في الحب والغرام حتى يلهي الملائكة عن تقواهم ويمشي الحب بينهم حتى يخاف الملك جبريل من عقابهم له إذا ما منعهم من الحب.
يستكمل الشاعر ثورته الخيالية مدافعًا عن حبيبته أمام الله قائلًا بأنها لم تخطئ ولم تجنِ أبدًا، فأنت يا الله من خلقتها صبية حسناء بارعة الجمال وأنت من ذوبت السحر في عيونها وجعلت من قطرات العسل شفتاها وأنت من رصعت باللآلئ بسمتها، وفي النهاية قلوب الناس ضعيفة وفتنت بها والناس جميعهم عطشى للجمال وللسحر.
فهي يا الله بريئة مما زينتها به ولا ذنب لها، فإن رأيت أنها أخطأت فعاقبني أنا بدلًا عنها، وضعها عندك في مكان تراني منه أو ضعني في مكان قريب منها لكي أراها.
3ـ قصيدة مقادير من جفنيك للشاعر أحمد شوقي
لقد صنفت قصيدة مقادير من جفنيك لأمير الشعراء أحمد شوقي كواحدة من أجمل قصائد الشعر العربي الحديث على الإطلاق، وكانت تلك القصيدة منذ أن تم إطلاقها موضع اهتمام من قبل الملحنين والمطربين وعلى رأسهم كوكب الشرق أم كلثوم الذي تفردت هي بغنائها من فرط جمال وإبداع أحمد شوقي في كتابتها، ويقول شوقي:
مقادير من جفنيك حوّلن حاليا … فذقت الهوى من بعد ما كنت خاليا
نفذن علىّ اللب بالسهم مرسلا … وبالسحر مقضيا وبالسيف قاضيا
وألبستني ثوب الضنى فلبسته … فأحبِب به ثوبا وإن ضم باليا
وما الحب إلا طاعة وتجاوز … وإن أكثروا أوصافه والمعانيا
وما هو إلا العين بالعين تلتقي … وإن نوّعوا اسبابه والدواعيا
وعند الهوى موصفه لا صفاته … إذا سألوني ما الهوى قلت ما بيا
وبي رشا قد كان دنياي حاضرا … فغادرني اشتاق دنياي نائيا
سمحت بروحي في هواه رخيصة … ومن يهو لا يؤثر على الحب غاليا
ولم تجر الفاظ الوشاة برية … كهذى التي يجرى بها الدمع واشيا
أقول لمن ودعت والركب سائر … برغم فؤادي سائر بفؤاديا
امانا لقلبي من جفونك في الهوى … كفى بالهوى كاسا وراحا وساقيا
ولا تجعليه بين خديك والنوى … من الظلم ان يغدو لنارَيك صاليا
شرح قصيدة مقادير من جفنيك لأحمد شوقي
في ظل عرض أجمل قصائد الشعر العربي الحديث، نبرز لكم شرح قصيدة مقادير من جفنيك، حيث يستهل الشاعر قصيدته بوصف عيون محبوبته قائلًا بأنهما بدلت حاله كليًا وشغلته بالحب والهوى من بعد ما كان خاليًا بريئًا منه، ويقول إن عيني حبيبته اخترقن عقله وباله وقلبه كالسهام الجارحة التي لا مفر ولا نفاد منها، فهي قضت عليه كما يقضي السحر على ضحيته واخترقته كما يخترق السيف جوارح أي إنسان.
ثم يتابع بقوله إن عيون محبوبته كانت السبب في أن لبس ثوب الحزن والاشتياق ولكنه راضٍ بذل ونعم به من ثوب إن كان لبسه من وراء محبوبته، فما الحب إلا طاعة وتجاوز عن الظلم والأخطاء مهما أكثروا وبالغوا في وصفه، وما الحب إلا لقاء عين الحبيب بعين محبوبه، وإن أكثروا ونوعوا في ذكر أسباب اللقاء بينهما.
إن الهوى عند الحب موصوف وليس صفات وهو أمر يجب أن يختبئ أن العيون، فإذا هام على وجهه حبًا وسأله الناس ماذا أصابه رد بالنفي وأن ما به من شيء، ويقول إن نظرات عين حبيبته كانت نشوة حاضرة عذبته وما أن غادرته اشتاق لها واشتاق إلى الرجوع إلى نفسه ودنياه التي باتت بعيدة عنه.
يشير الشاعر إلى أن روحه هي فدية بسيطة مقابل محبوبته، وإن من يحب لا يستكثر على من يحبه أي شيء مهما كان غاليًا، ومهما جرت كلمات الوشاة بين الناس لتفضح أمرًا ما، فهي لن تكون كالدموع التي يذرفها في شوق لحبيبته وتفضح أمره لدى الجميع واشية على حبه الكامن في داخل قلبه.
بالرغم من أي شيء سوف أبقى هائم بفؤادي في هوى حبيبتي كنت في أمان أنا وقلبي من هوى عينيكِ، ولكننا سقطنا صرعى في بحريهما، فكفى بهواكِ كأسًا وراحة ونديمًا، وراعِهِ يا حبيبتي فهولا يستحق من بعد ما بذله في هواكِ أن يكتوي ويصطلي بنار الحب والشوق إليكِ.
4ـ قصيدة القدس للشاعر نزار قباني
لقد أبدع الشاعر الراحل نزار قباني في كتابة القصائد الوطنية ومن أبرز قصائده الوطنية قصيدة القدس، تلك الملحمة الوطنية النضالية الرقيقة العذبة والتي صارت واحدة من أجمل قصائد الشعر العربي الحديث وأشهرها على الإطلاق، ويقول شاعرنا في نص قصيدته العذب:
“بكيت.. حتى انتهت الدموع
صليت.. حتى ذابت الشموع
ركعت.. حتى ملني الركوع
سألت عن محمد، فيك وعن يسوع
يا قدس، يا مدينة تفوح أنبياء
يا أقصر الدروب بين الأرض والسماء
يا قدس، يا منارة الشرائع
يا طفلةً جميلةً محروقة الأصابع
حزينةٌ عيناك، يا مدينة البتول
يا واحةً ظليلةً مر بها الرسول
حزينةٌ حجارة الشوارع
حزينةٌ مآذن الجوامع
يا قدس، يا جميلةً تلتف بالسواد
من يقرع الأجراس في كنيسة القيامة؟
صبيحة الآحاد..
من يحمل الألعاب للأولاد؟
في ليلة الميلاد..
يا قدس، يا مدينة الأحزان
يا دمعةً كبيرةً تجول في الأجفان
من يوقف العدوان؟
عليك، يا لؤلؤة الأديان
من يغسل الدماء عن حجارة الجدران؟
من ينقذ الإنجيل؟
من ينقذ القرآن؟
من ينقذ المسيح ممن قتلوا المسيح؟
من ينقذ الإنسان؟
يا قدس.. يا مدينتي
يا قدس.. يا حبيبتي
غداً.. غداً.. سيزهر الليمون
وتفرح السنابل الخضراء والزيتون
وتضحك العيون..
وترجع الحمائم المهاجرة..
إلى السقوف الطاهرة
ويرجع الأطفال يلعبون
ويلتقي الآباء والبنون
على رباك الزاهرة..
يا بلدي..
يا بلد السلام والزيتون“
شرح قصيدة القدس لنزار قباني
في سياق ذكر أجمل قصائد الشعر العربي الحديث، نوضح لكم أن الدافع وراء كتابة القصائد الوطنية في حقبة العصر الحديث لدى نزار قباني وغيره من شعراء ذلك العصر هو القضية الفلسطينية الوطنية، ففي ذلك الحين اندلعت الحروب وأسقطت فلسطين من على الخريطة العالمية، لكي تحل محلها الدولة اليهودية الصهيونية إسرائيل في عام 1948م والذي سمي بعام نكبة فلسطين.
كانت ولا تزال فلسطين قائمة بذاتها في وجدان الشعوب العربية ولا سيما شعراء الوطن العربي الذي كان نزار قباني هو أجرأهم وأبرزهم خلال هذه الفترة، ويبرز جمال قصيدة القدس وتميزها عن غيرها من القصائد الوطنية التي تكلمت عن القدس في براعة استهلال نزار قباني، بلعبه على وتر حساس للغاية لدى العر جميعًا من شتى الأديان والطوائف ألا وهو وتر الدين والمقدسات وأنبياء الكتب السماوية.
يعبر الشاعر في أبيات هذه الرائعة الشعرية عن المكانة الدينية القيمة التي تحتلها مدينة القدس المباركة، محاولًا التعبير عن حزنه وأسفه حيال ما صارت إليه وما صارت إليه الأديان السماوية معها، كما يشير نزار قباني إلى مدى توسلاته وبكائه في الركوع والسجود من الحسرة على وضع فلطين ثم يسأل عن مثوى الأنبياء كيف صار بعد أن اغتُصِبت فلسطين.
يأتي نزار بعد ذلك مستخدمًا الأسلوب الإنشائي ووسيلته أداة النداء من أجل أن ينادي على القدس الشريف ليصفها بصفاتها الدينية المقدسة، أي بكونها الأرض التي مر عليها أنبياء الله وأنها كانت البوابة التي عبر منها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الله في السماء خلال رحلة الإسراء والمعراج، ووصفها بأنها هي قطب الشرائع الدينية كلها وبعدها يغازلها ويشبهها بطفلة صغيرة تبكي لاحتراق أصابعها.
تحليل قصيدة القدس
ما زلنا نبرز لكم أجمل قصائد الشعر العربي الحديث، وها نحن هنا لنوضح لكم تحليل قصيدة القدس، حيث يستكمل الشاعر محاولاته في وصف الحزن المخيم على أزقة وشوارع القدس ويقوم برصد الحزن الساكن في عينيها التي شبهها بعيني العذراء البتول مريم عليها السلام، كما يشير إلى الحزن الكامن في مآذن مساجدها، وفي أجراس كنائسها مشبهًا إياها بفتاة جميلة تلف جسدها برداء أسود من شدة الحزن المسيطر عليها.
ثم يستطرد سائلًا عن الهدايا التي كانت تعطى للأطفال في ليلة الميلاد من كل عام ما هو مصيرها بعد ما أحل على القدس من حزن، ويعاود الشاعر ندائه للقدس سائلًا إياها بحزن عمن سينقذها من الجحيم التي آلت إليه، واصفًا إياها بمدينة الحزن والدمعة التي تسكن العيون والتي اجتمعت فيها الأديان المقدسة، ويخاطب الناس باسم الإنجيل والقرآن، ويسألهم من سينقذ كتب الله ومن سينقذ سيرة أنبيائه عيسى ومحمد عليهم السلام.
في نهاية القصيدة يحاول الشاعر محو غيمة الحزن بشعاع من الأمل البسيط بأن كل شيء سوف يرجع كما كان وأفضل، وسوف تخضر أراضي فلسطين وترتفع رؤوس السنابل الذهبية فخرًا بحرية أرضها، وسيرجع أطفال فلسطين يلعبون ويمرحون في رباها وسيحل السلام والأمن والوئام على أرض القدس المحتلة مرة أخرى.
5ـ قصيدة المواكب للشاعر جبران خليل جبران
تعد قصيدة المواكب للراحل جبران خليل جبران بالفعل من أجمل قصائد الشعر العربي الحديث على الإطلاق، وتوضح القصيدة معالم الذوق الرفيع الصفاء والنقاء ورية المخيلة التي كان يتمتع بها جبران خليل جبران، وكان التطلع إلى الحرية والثورة على تقاليد الشعر العتيقة هو المبدأ الذي تبناه شعراء العصر الحديث، ويتضح هذا جليًا في المقطع التالي من قصيدة المواكب:
“ليس في الغابات حزنٌ … لا ولا فيها الهمومْ
فإذا هبّ نسيمٌ … لم تجيء معه السمومْ
ليس حزن النفس إلا … ظلُّ وهمٍ لا يدومْ
وغيوم النفس تبدو … من ثناياها النجومْ
أعطني الناي وغنِّ … فالغنا يمحو المحنْ
وأنين الناي يبقى … بعد أن يفنى الزمنْ
أعطني النايَ وغنّ … فالغناء سر الخلود
وأنين الناي يبقى … بعد أن يفنى الوجود
أعطني الناي وغنِّ … وانس ما قلتُ وقلتا
نقترح لك قراءة
إنّما النطقُ هباءٌ … فأفدني ما فعلنا
هل تخذتَ الغابَ مثلي … منزلاً دونَ القصور
فتتبّعتَ السواقي … وتسلّقتَ الصخور؟
هل تحمّمتَ بعطرٍ … وتنشّفتَ بنور
وشرِبتَ الفجر خمرًا … في كؤوسٍ من أثير؟
أعطني الناي وغنّ … فالغناء سر الخلود
وأنين الناي يبقى … بعد أن يفنى الوجود
هل جلست العصر مثلي … بين جفنات العنب
والعناقيد تدلّت … كثريّات الذهب
هل فرشت العُشبَ ليلاً … وتلحّفتَ الفضاء
زاهداً فيما سيأتي … ناسياً ما قد مضى؟
أعطني الناي وغنّ … فالغنا عدل القلوب
وأنينُ الناي يبقى … بعد أن تفنى الذنوب
أعطني الناي وغنّ … وانسَ داءً ودواء
إنما الناس سطورٌ … كُتِبت لكن بماء
أعطني النايَ وغنّ … فالغناء سر الخلود
وأنين الناي يبقى … بعد أن يفنى الوجود“
شرح قصيدة المواكب لجبران خليل جبران
إن ما يجعل قصيدة المواكب من أجمل قصائد الشعر العربي الحديث هو الميل إلى الطبيعية النفسية الوجدانية التي فطر منها وعليها الإنسان، فنجد أن الشاعر جبران في الأبيات السابقة يصف الطبيعة والغابات الخضراء على أنها الموطن الحقيقي للحرية والانطلاق والإبداع، ويرى أيضًا أن طبيعة الغابات النقية لا تدعو إلى الخوف أبدًا من مائها أو هوائها العليل على عكس أي مكان آخر في الدنيا فهو من وجهة نظر جبران محفوف بالأخطار.
يقول جبران في هذا المقطع أن الموسيقى مع الطبيعة هي التي تعطي للإنسان شعورًا بأنه خالد، وتنسيه ما كان وتفقده الخوف مما سوف يكون، فإن عبق الموسيقى والحياة التي كان الإنسان يتمتع بهما هما اللذان سوف يبقيان بعد أن يفنى الإنسان نفسه ويفنى بفنائه كل الوجود، ويدعو الشاعر إلى نسيان الندم على ما فات ونسيان ما قاله وما قيل له ونسيان الماضي المؤلم والزهد فيما هو آت من المستقبل.
يباهي الشاعر بنفسه لكونه اعتنق الطبيعة وعانقها ويسأل غيره هل أنت مثلي؟ هل تركت سُكنى القصور الزاهية لكي تسكن الغابات الخضراء؟ وهل تتبعت سواقي المياه والمطر وتصلقت صخور الغابات كما فعلت أنا؟ هل سبق لك وتحممت بعطر ورود ونباتات وزهور الغابات ثم تركت نداك ليجففه لك نور الشمس الصافي؟ هل شعرت بأنك في الفجر تسكر من خمر الأثير الذي يغطي السماء؟
يتابع الشاعر تفاخره بوضعه المعانق لطبيعة ويسأل محدثه ما إن كان قد جلس على عرش الغابات الخضراء وتناول من عناقيد عنبها المتدلية كالنجف المصنوع من الذهب الخالص؟ وهل جرب أن يكون مثله ويفترش سريرًا من العشب النقي ويتغطى بالفضاء الشاسع الذي تزينه السماء؟ ناسيًا ما كان عليه غير مبالٍ بما سوف يكون عليه في الغد.
يتجاهل الشاعر في نهاية المقطع كل نداء بشري ويلبي نداء عناق الطبيعة ويتجاهل بقوله أعطني آلة الناي وغني لي، فإن الغناء هو ميزان العدل الذي تستوي عليه كل القلوب، غني وغني مع الناس وانسَ أي مرض وأي دواء فإن كل من على الأرض فان والناس ما هم إلا سطور خُطَّت في كتاب الحياة ولكنها خُطَّت بالماء.
6ـ قصيدة لأنكِ مني للشاعر فاروق جويدة
يعد ديوان شيء ما يبقى بيننا للشاعر فاروق جويدة وبالتحديد قصيدة لأنك مني تستحق وعن جدارة بأن تنصف مواحدة من أجمل قصائد الشعر العربي الحديث، ولقد حملت تلك الرائعة الشعرية في طياتها أسمى وأجمل معاني الحب والشوق والمعانة، وأكثر مشاعر الحب تعقيدًا ولكن في إطار مبسط سلس وعذب إلى أقصى حد ممكن، ويقول فاروق جويدة في تحفته الفنية لأنك مني:
“تغيبين عني…..
وأمضي مع العمر مثل السحاب
وأرحل في الأفق بين التمني
وأهرب منك السنين الطوال
ويوم أضيع.. ويوم أغني..
أسافر وحدي غريبًا غريبا
أتوه بحلمي وأشقى بفني
ويولد فينا زمان طريد
يخلف فينا الأسى.. والتجني..
ولو دمرتنا رياح الزمان
فما زال في اللحن نبض المغني
تغيبين عني..
وأعلم أن الذي غاب قلبي
وأني إليك.. لأنك مني
تغيبين عني..
وأسأل نفسي ترى ما الغياب؟
بعاد المكان.. وطول السفر!
فماذا أقول وقد صرت بعضي
أراك بقلبي.. جميع البشر
وألقاك.. كالنور مأوى الحيارى
وألحان عمر شجي الوتر
وإن طال فينا خريف الحياة
فما زال فيك ربيع الزهر
تغيبين عني..
فأشتاق نفسي
وأهفو لقلبي على راحتيك
نتوه.. ونشتاق نغدو حيارى
وما زال بيتيَ.. في مقلتيك..
ويمضي بيَ العمر في كل درب
فأنسى همومي على شاطئيك..
وإن مزقتنا دروب الحياة
فما زلت أشعر أني إليك..
أسافر عمري وألقاك يوما
فإني خلقت وقلبي لديك..
بعيدان نحن ومهما افترقنا
فما زال في راحتيك الأمان
تغيبين عني وكم من قريب..
يغيب وإن كان ملء المكان
فلا البعد يعني غياب الوجوه
ولا الشوق يعرف.. قيد الزمان”
شرح قصيدة لأنكِ مني لفاروق جويدة
يستهل الشاعر مطلع قصيدة لأنك مني ـ التي تعد من أجمل قصائد الشعر العربي الحديث ـ بوصف حاله عندما تغيب حبيبته عنه فيصف نفسه عند رحيلها على أنه يضيع مع العمر ويمر مثله مرو السحاب، ويظل يهرب من الأيام حين ويطاردها حين آخر فيوم يكون فيه ضائعًا حزينًا ويوم آخر يكون فيه ضاحكًا متغنيًا على أمل اللقاء، ويصف نفسه بالغريب الذي يسافر وحده تائهًا في أحلامه منهكًا متعبًا من فنه.
يتابع الشاعر وصف حالته وحال حبيبته عندما يفترقان ويقول إن الزمان طريد لهم على الدوام يترك في نفسوهم حزنًا وألمًا وظلمًا، ولكن الشاعر بالرغم من ذلك لم ييأس ويعد حبيبته بالبقاء قائلًا بأن ريح الزمان مهما عصفت بهم سوف تبقى ألحان الحب في نبضه؛ لأنه يعلم أن الذي غاب عنه في غياب حبيبته هو قلبه، وذلك الإحساس ولد لأنه شعر دومًا أنها جزء من نفسه.
ثم يسأل الشاعر نفسه مستنكرًا ما هو الغياب وماذا يعني أهو بعد الأماكن وطول مدة السفر؟ ولكن يرجع إلى نفسه ويلومها على هذا السؤال قائلًا بأن حبيبته لا تغيب عنه بالرغم من غيابها بالفعل لأنه يراها بقلبه في كل البشر من حوله، فهي عنده بمثابة النور الذي يهدي السائر إذا ما ضل طريقه وهي عنده لحن لعمرٍ بأكمله لحن شجي الأنغام، ومهما مرت سنين العمر عليهم وكأنها خريف فهو يرى فيها ربيعًا لعمره الذي خيم عليه الخريف.
يتابع الشاعر وصفه في بعد حبيبته واصفًا بأنها عندما تغيب عنه يشتاق إلى نفسه في غيابها ويرجو أن يلقاها ليضع قلبه بين يديها، وبالرغم من الغياب والحيرة والضياع إلا أنه يجد بيته ومأواه دومًا هو عينيها، وبالرغم من تخبطه بين الدروب على طول الحياة إلا أنه يصمد ويتحمل ليقينه بأنه سوف يجد راحته على مرفأ عيني حبيبته في النهاية.
كما يقول بالرغم من البعد والفراق لا زلت أؤمن بأن في كفيك الأمان وأنتِ لست بعيدة عني برغم الفراق، فكم من قريب منا لا نشعر بوجوده رغم كونه موجودًا معنا بالفعل وكم من غائب عن المكان نراه في كل ركن منه لأنه ساكن في نفوسنا، وهذا يعني أن البعد والفراق لا يعني غياب الجسد ولا الاشتياق إلى الحبيب يعرف حدودًا للزمان أو المكان.
7ـ قصيدة العيون السود للشاعر إيليا أبو ماضي
يعد الشاعر الراحل إيليا أبو ماضي من أفضل وأشهر شعراء الحقبة الحديثة وتعد قصيدته العيون السود من أجمل قصائد الشعر العربي الحديث، والتي يشكو فيها الشاعر من ضعف قلوب الرجال أمام سحر وجاذبية صاحبات العيون السوداء، ويستكمل غزله فيها بكلمته الرقيقة العذبة قائلًا:
لَيتَ الَّذي خَلَقَ العُيونَ السودا … خَلَقَ القُلوبَ الخافِقاتِ حَديدا
لَولا نَواعِسُها وَلَولا سِحرُها … ما وَدَّ مالِكُ قَلبِهِ لَو صيدا
عَوِّذ فُؤادَكَ مِن نِبالِ لِحاظِها … أَو مُت كَما شاءَ الغَرامُ شَهيدا
إِن أَنتَ أَبصَرتَ الجَمال وَلَم تَهِم … كُنتَ اِمرَأً خَشِنَ الطِباعِ بَليدا
وَإِذا طَلَبتَ مَعَ الصَبابَةِ لَذَّةً … فَلَقَد طَلبَتَ الضائِعَ المَوجودا
يا وَيحَ قَلبي إِنَّهُ في جانِبي … وَأَظُنُّهُ نائي المَزارِ بَعيدا
مُستَوفِزٌ شَوقاً إِلى طَحبابِهِ … المَرءُ يَكرَهُ أَن يَعيشَ وَحيدا
بَرَأَ الإِلَهُ لَهُ الضُلوعَ وِقايَةً … وَأَرَتهُ شِقوَتُهُ الضُلوعَ قُيودا
فَإِذا هَفا بَرقُ المُنى وَهَفا لَهُ … هاجَت دَفائِنُهُ عَلَيهِ رُعودا
جَشَّمتُهُ صَبراً فَلَمّا لَم يَطُق … جَشَّمتُهُ التَصويب وَالتَصعيدا
لَو أَستَطيعُ وَقَيتُهُ بَطشَ الهَوى … وَلَوِ اِستَطاعَ سَلا الهَوى مَحمودا
هِيَ نَظرَةٌ عَرَضَت فَصارَت في الحَشا … نارا وَصارَ لَها الفُؤادُ وَقودا
شرح قصيدة العيون السود لإيليا أبو ماضي
إن ما يجعل هذه القصيدة من أجمل قصائد الشعر العربي الحديث هو بساطة وعذوبة الألفاظ والكلمات بالرغم من تعقيدها وجزالة اللغة في آن واحد، فيبدأ الشاعر قوله في هذا المقطع بأسلوب التمني متمنيًا لو كان الله الذي أبدع في خلق صاحبات العيون السوداء قد خلق في مقابلها قلوبًا من الحديد لكي تتمكن من مقاومة سحرها الأخّاذ.
لولا مظهر العيون السوداء الناعسة ولولا سحرها القاتل ما تمنى أحد من الرجال قط أن يصبح فريسة لتلك العيون، ثم يطلب الشاعر من أي رجل هنا أن حصن قلبه من رمي سهام العيود السوداء، وإلا سيكون مصيره أن يموت شهيدًا في هواها، ويصف الموقف الحرج للرجل بأنه إذا لم يتأثر بوقع فتنة العيون السود فهو رجل لا مشاعر لديه، وإذا استسلم لجمالها أصبح كمن يذهب إلى الجنون أو الوت بقدميه حيث يكون.
يوضح الشاعر حالته قائلًا بأن قلبه بالرغم من وجوده في جانب صدره، إلا أنه من بعد أن رأى العيون السوداء غادره قلبه إلى حيث تكون هي، ويشتاق إلى قلبه لكي يرجع له وقلبه قد صار ملكًا للعيون السود، مما ولد لدى الشاعر إحساسًا بالوحدة، ولقد خلق الله الأضلع لكي تكون للقلب درعًا واقيًا ليحميه من أي خطر ولكنه من بعد ما أصيب بلواحظ العيون السود صار يرى أن تلك الأضلع قيودًا تحول بينه وبين العيون التي عشقها.
إذا طلب الشاعر من قلبه بأن يعود إليه مرة أخرى ثار قلبه عليه ثورة عاتية كالرعد القوي، ويتحسر الشاعر في نهاية المقطع بقوله نادمًا يا ليتني استطعت أن أحمي قلبي من قوة وبطش الهوى ولكنه صار لنيران الهوى والشوق الوقود المشعل لها، ما كان كل هذا إلا بسبب نظرة من عيون سود ولكنها فعليًا صارت كالنار التي تأكل القلب أكلًا.
8ـ قصيدة شعر الرقباء للشاعر أحمد مطر
بالرغم من بساطة وصغر وقصر أبيات قصيدة شعر الرقباء إلا أنها بالفعل واحدة من أجمل قصائد الشعر العربي الحديث، وهي تعبر عن رغبة الشعراء في حرية التعبير عن الرأي والتخلص من القيود التي كانت تفرضها الرقابة على الشعراء وخاصةً الوطنيين منهم آنذاك، فكما نعلم جميعًا في حقبة العصر الحديث كانت البلاد العربية واقعة تحت سيطرة الاستعمار الأوروبي.
كان الشعر خلال العصر الحديث هو صوت الأمة والمعبر عن آراء الشعوب وهو المحرك الوجداني الأول للثورة على الاستعمار من أجل تحرير الوطن، وكان أحمد مطر من خلال قصيدة شعر الرقباء يحاول أن يعبر رغبته في التعبير عن قضية وطنه وأحاسيسه كشاعر ولكنه متخوف من الحكومة والرقابة التي كانت تتوعد له دومًا بالاعتقال، وكانت هذه القصيدة بمثابة قنبلة يدوية صنعها الشاعر وألقاها لكي يعبر أنه يرغم في الاستقلال ولكنه يخشى أن يقتل أو يعدم، وتتضح تلك العاطفة في قوله:
“فكرت بأن أكتب شعراً
لا يهدر وقت الرقباء
لا يتعب قلب الخلفاء
لا تخشى من أن تنشره
كل وكالات الأنباء
ويكون بلا أدنى خوف
في حوزة كل القراء
هيأت لذلك أقلامي
ووضعت الأوراق أمامي
وحشدت جميع الآراء
ثم.. بكل رباطة جأش
أودعت الصفحة إمضائي
وتراءت الصفحة بيضاء!
راجعت النص بإمعان
فبدت لي عدة أخطاء
قمت بحك بياض الصفحة..
واستغنيت عن الإمضاء!“
شرح قصيدة شعر الرقباء لأحمد مطر
إن ما جعل قصيدة شعر الرقباء واحدة من أجمل قصائد الشعر العربي الحديث هي بساطة الشاعر في التعبير عن مخاوفه من بطش الاستعمار به، فنجده يقول بأنه يفكر في كتابة شعر لا يضيع وقت الرقابة ولا يغضب الحكومة ولا تتخوف وكالات الأنباء من نشره، ويستطيع أن يحمله القراء معهم أينما ووقتما شاءوا من دون أي خوف أو حذر.
يتابع الشاعر شرح الموقف قائلًا بأنه جهز أقلامه وأعد الورق للكتابة وقد استجمع كل قوته وشجاعته، ثم كتب جميع الآراء الحارة والعواطف القوية الاستقلالية المعبرة عن الوطن، والتي تدور في خاطره وفي خاطر كل أبناء الشعب العربي وبمجرد أن انتهى من كتابة القصيدة الوطنية وضع إمضائه عليها من دون خوف، ثم أسك بالورقة ليراجع محتواها فعاد إليه الخوف من الحكومات الاستعمارية ورقابتها فقام بمحو إمضاءه مرة أخرى ليترك مكان اسمه شاغرًا.
9ـ قصيدة هذه ليلتي للشاعر جورج جرداق
لقد تم تصنيف قصيدة هذه ليلتي كواحدة من أجمل قصائد الشعر العربي الحديث، ولذلك اختارتها كوكب الشرق أم كلثوم لكي تقوم بغنائها من ألحان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، ولقد كتب الشاعر تلك الرائعة الشعرية لكي يعبر عن ضرورة احتضان اللحظة الحالية والاستمتاع بها قبل أن تسرقها الدنيا، ويقول الشاعر:
“هذه ليلتي وَحُلْمُ حَيَاِتي
بَينَ مَاضٍ من الزّمانِ وَآتِ
الهَوَى أَنَتَ كُلُّه والأمَانِي
فَاملأ الكأسَ بِالغَرامِ وَهَاتِ
بَعدَ حِينٍ يُبدّلُ الحُبُّ دَارَا
وَالعَصَافِيرُ تَهجُرُ الأوكَارَا
وَدِيارٌ كَانَت قَدِيمًا دِيارَا
سَتَرَانَا، كَمَا نَرَاهَا، قِفَارَا
سَوفَ تَلهُو بِنا الحَياةُ وتَسخَر
فَتَعَالَ أُحِبُّكَ الآنَ أكثَر
وَالمسَاءُ الذِي تَهَادَى إِلينَا
ثُمَّ أصغَى وَالحُبُّ في مُقلَتينَا
لسُؤَالٍ عَنِ الهَوَى وَجَوَابٍ
وَحَدِيثٍ يَذُوبُ في شَفَتينَا
قَد أَطَالَ الوُقُوفَ حِينَ دَعَانِي
لِيَلُمَّ الأشواقَ عَن أَجفانِي
فَادن منّي وخُذ إِليكَ حَنَاني
ثُمُّ أَغمضْ عَينيكَ حَتَّى تَرَانيَ
وَليَكنُ لَيلُنا طًوِيلاً طَويلاً
فَكثيرُ اللقِاءِ كَانَ قَليلاَ
سَوفَ تَلهُو بِنَا الحَياة وَتَسخَر
فَتَعَالَ أُحُبّك الآنَ أَكثَر“
شرح قصيدة هذه ليليتي لجورج جرداق
في ظل عرض أجمل قصائد الشعر العربي الحديث، نذكر لكم شرح قصيدة هذه ليليتي، حيث يبدأ الشاعر قصيدته بقول إن تلك الليلة من العمر في حبه هي ليلة خاصة به وحده دونًا عن الدنيا بأسرها، فهي ليلة تقع ما بين الماضي السحيق والمستقبل البعيد ويصف محبوبته بأنها هي الحب والهوى عنده ولتملأ كأس ليلهما بالهوى والغرام، مذكرًا إياها بأن يتركا نفسيهما ليستمتعا بتلك الليلة من العمر، فإن الدنيا لا تبقى على حالها وسوف تلهو وتسخر منهم ولتبقى معه لكي يحبها أكثر.
يصف الشاعر بأن حال الدنيا ينقلب على المحبين ويكون الغد بالنسبة لهم مهجورًا كالدور القديمة والأرض المقفرة، ويقول بأن تلك الأطلال كما نراها اليوم أطلالًا سوف نصبح نحن بفعل الزمان غدًا أطلالًا مثلها، والمساء الذي أتى إلى الشاعر وحبيبته في هدوء وود وأصغى إلى كلامهم في الحب بين السؤال والجواب قد أطال وامتد عن وقته الطبيعي لكي يمنحهما ليلة واحدة بكل العمر قبل أن تبدل الدنيا حالهم في الغد.
لقد أطال الليل وقوفه عند الشاعر من وجهة نظره لكي يمنح حبيبته الفرصة لِأن تلملم الشوق عن جفنيه، وتقترب منه أكثر فيراها ويشعر بها أكثر وأكثر، ويتمنى من الليل أن يطول أكثر من ذلك لكي يطول معه لقائه بحبيبته، فإن كثيرًا من اللقاءات بين المحبين بالرغم من طولها فهي قصيرة جدًا، ولنستغل طول هذا الليل في أن يحب محبوبته أكثر قبل أن تعصف بهم ريح الدنيا.